فصل: ذكر إسلام عمر بن الخطاب

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


 ذكر الهجرة إلى أرض الحبشة

ولما رأى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما يصيب أصحابه من البلاء وما هو فيه من العافية بمكانة من الله عز وجل وعمه أبي طالب وأنه لا يقدر على أن يمنعهم قال‏:‏ لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن فيها ملكًا لا يظلم أحد عنده حتى يجعل الله لكم فرجًا ومخرجًا مما أنتم فيه‏.‏

فخرج المسلمون إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة وفرارًا إلى الله بدينهم فكانت أول هجرة في الإسلام فخرج عثمان بن عفان وزوجته رقية ابنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ معه وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة ومعه امرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو والزبير العوام وغيرهم تمام عشرة رجال وقيل‏:‏ أحد عشر رجلًا وأربع نسوة وكان مسيرهم في رجب سنة خمس من النبوة وهي السنة الثانية من إظهار الدعوة فأقاموا شعبان وشهر رمضان‏.‏

وقدموا في شوال سنة خمس من النبوة وكان سبب قدومهم إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه لما رأى مباعدة قومه له شق عليه وتمنى أن يأتيه الله بشيء يقاربهم به وحدث نفسه بذلك فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 1‏]‏‏.‏ فلما وصل إلى قوله‏:‏ ‏{‏أفَرَأيْتُمُ اللاّتَ والعُزّى وَمَنَاةَ الثّالِثَةَ الأخْرَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 20‏]‏‏.‏ ألقى الشيطان على لسانه لما كان يحدث به نفسه‏:‏ تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى‏.‏

فلما سمعت ذلك قريش سرهم والمسلمون مصدقون بذلك لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يتهمونه ولا يظنون به سهوًا ولا خطًا‏.‏

فلما انتهى إلى سجدة سجد معه المسلمون والمشركون إلا الوليد بن المغيرة فإنه لم يطق السجود لكبره فأخذ كفًا من البطحاء فسجد عليها‏.‏

ثم تفرق الناس‏.‏

وبلغ الخبر من بالحبشة من المسلمين أن قريشًا أسلمت فعاد منهم قوم وتخلف قوم وأتى جبرائيل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأخبره بما قرأ فحزن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخاف فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبيٍّ إلاّ إذَا تَمَنّى ألْقَى الشّيْطَانُ في أمْنّيِتِهِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 52‏]‏‏.‏ فذهب عنه الحزن والخوف‏.‏

واشتدت قريش على المسلمين فلما قرب المسلمون الذين كانوا بالحبشة من مكة بلغهم أن إسلام أهل مكة باطل فلم يدخل أحد منهم إلا بجوار أو مستخفيًا فدخل عثمان في جوار أبي أحيحة سعيد بن العاص بن أمية فأمن بذلك ودخل أبو حذيفة بن عتبة بجوار أبيه ودخل عثمان بن مظعون بجوار الوليد بن المغيرة ثم قال‏:‏ أكون في ذمة مشركٍ‏!‏ جوار الله أعز فرد عليه جواره وكان لبيد بن ربيعة ينشد قريشًا قوله‏:‏ ألاّ كل شيءٍ ما خلا الله باطل فقال عثمان بن مظعون‏:‏ صدقت فلما قال‏:‏ وكلّ نعيمٍ لا محالة زائل قال‏:‏ كذبت‏!‏ نعيم الجنة لا يزول فقال لبيد‏:‏ يا معشر قريش ما كانت مجالسكم هكذا ولا كان السفه من شأنكم‏.‏

فأخبروه خبره وخبر ذمته فقام بعض بني المغيرة فلطم عين عثمان فضحك الوليد شماتةً به حيث رد جواره وقال لعثمان‏:‏ ما كان عن هذا‏!‏ فقال‏:‏ إن عيني الأخرى لمحتاجة إلى مثل ما نالت هذه‏.‏

فقال له‏:‏ هل لك أن تعود إلى جواري قال‏:‏ لا أعود إلى جوار غير الله‏.‏

فقام سعد بن أبي وقاص إلى الذي لطم عين عثمان فكسر أنفه فكان أول دم أريق في الإسلام في قولٍ‏.‏

وأقام المسلمون بمكة يؤذون فلما رأوا ذلك رجعوا مهاجرين إلى الحبشة ثانيًا فخرج جعفر بن أبي طالب وتتابع المسلمون إلى الحبشة فكمل بها تمام اثنين وثمانين رجلًا والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مقيمٌ بمكة يدعو إلى الله سرًا وجهرًا فلما رأت قريشٌ أنه لا سبيل لها إليه رموه بالسحر والكهانة والجنون وأنه شاعر وجعلوا يصدون عنه من خافوا أن يسمع قوله وكان أشد ما بلغوا منه ما ذكره عبد الله بن عمرو بن العاص قال‏:‏ حضرت قريشٌ يومًا بالحجر فذكروا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وما نال منهم وصبرهم عليه فبينما كذلك إذ طلع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومشى حتى استلزم الركن ثم مر بهم طائفًا فغمزوه ببعض القول فعرفت ذلك في وجهه ثم مضى فلما مر بهم الثانية غمزوه مثلها ثم الثالثة فقال‏:‏ أتسمعون يا معشر قريش والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح‏.‏

قال‏:‏ فكأنما على رؤوسهم الطير واقعٌ حتى إن أشدهم فيه ليرفؤه بأحسن ما يجد‏.‏

وانصرف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى إذا كان الغد اجتمعوا في الحجر فقال بعضهم لبعض‏:‏ ذكرتم ما بلغ منكم حتى إذا أتاكم بما تكرهون تركتموه فبينما هم كذلك إذ طلع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فوثبوا إليه وثبة رجل واحد يقولون له‏:‏ أنت الذي تقول كذا وكذا فيقول‏:‏ أنا الذي أقول ذلك فأخذ عقبة ابن أبي معيط بردائه وقام أبو بكر الصديق دونه يقول وهو يبكي‏:‏ ويلكم‏!‏ ‏{‏أتَقْتُلُونَ رَجُلًا أنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 28‏]‏‏.‏ ثم انصرفوا عنه‏.‏

هذا أشد ما بلغت عنه‏.‏

 

ذكر إرسال قريش إلى النجاشي في طلب المهاجرين

لما رأت قريش أن المهاجرين قد اطمأنوا بالحبشة وأمنوا وأن النجاشي قد أحسن صحبتهم ائتمروا بينهم فبعثوا عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي أمية ومعهما هدية إليه وإلى أعيان أصحابه فسارا حتى وصلا الحبشة فحملا إلى النجاشي هديته وإلى أصحابه هداياهم وقالا لهم‏:‏ إن ناسًا من سفهائنا فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دين الملك وجاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم وقد أرسلنا أشراف قومهم إلى الملك ليردهم إليهم فإذا كلمنا الملك فيهم فاشيروا عليه بأن يرسلهم معنا من غير أن يكلمهم وخافا إن يسمع النجاشي كلام المسلمين أن لا ثم إنهما حضرا عند النجاشي فأعلماه ما قد قالاه فأشار أصحابه بتسليم المسلمين إليهما‏.‏

فغضب من ذلك وقال‏:‏ لا والله لا أسلم قومًا جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم وأسألهم عما يقول هذان فإن كانا صادقين سلمتهم إليهما وإن كانوا على غير ما يذكر هذان منعتهم وأحسنت جوارهم‏.‏

ثم أرسل النجاشي إلى أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فدعاهم فحضروا وقد أجمعوا على صدقه فيما ساءه وسره وكان المتكلم عنهم جعفر بن أبي طالب‏.‏

فقال لهم النجاشي‏:‏ ما هذا الدين الذين فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا دين أحد من الملل فقال جعفر‏:‏ أيها الملك كنا أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف حتى بعث الله إلينا رسولًا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعاه لتوحيد الله وأن لا نشرك به شيئًا ونخلع ما كنا نعبد من الأصنام وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وأمرنا بالصلاة والصيام‏.‏

وعدد عليه أمور الإسلام قال‏:‏ فآمنا به وصدقناه وحرمنا ما حرم علينا وحللنا ما أحل لنا فتعدى علينا وقمنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان فلما قهرونا وظلمونا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك فقال النجاشي‏:‏ هل معك مما جاء به عن الله شيء قال‏:‏ نعم فقرأ عليه سطرًا من كهيعص فبكى النجاشي وأساقفته وقال النجاشي‏:‏ إن هذا والذي جاء به عيسى يخرج من مشكاة واحدة انطلقا والله لا أسلمهم إليكما أبدًا‏!‏ فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص‏:‏ والله لآتينه غدًا يبيد خضراءهم‏.‏

فقال له عبد الله بن أبي أمية وكان أتقى الرجلين‏:‏ لا تفعل فإن لهم أرحامًا‏.‏

فلما كان الغد قال للنجاشي‏:‏ إن هؤلاء يقولون في عيسى بن مريم قولًا عظيمًا‏.‏

فأرسل النجاشي فسألهم عن قولهم في المسيح‏.‏

فقال جعفر‏:‏ نقول فيه الذي جاءنا به نبينا‏:‏ هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول‏.‏

فأخذ النجاشي عودًا من الأرض وقال‏:‏ ما عدا عيسى ما قلت هذا العود‏.‏

فنخرت بطارقته فقال‏:‏ وإن نخرتم‏.‏

وقال للمسلمين‏:‏ اذهبوا فأنتم آمنون ما أحب أن لي جبلًا من ذهب وأنني آذيت رجلًا منكم‏.‏

ورد هدية قريش وقال‏:‏ ما أخذ الله الرشوة مني حتى آخذها منكم ولا أطاع الناس في حتى أطيعهم فيه‏.‏

وأقام المسلمون بخير دار‏.‏

وظهر ملك من الحبشة فنازع النجاشي في ملكه فعظم ذلك على المسلمين وسار النجاشي إليه ليقاتله وأرسل المسلمون الزبير بن العوام ليأتيهم بخبره وهم يدعون له فاقتتلوا فظفر قيل‏:‏ إن معنى قوله إن الله لم يأخذ الرشوة مني أن أبا النجاشي لم يكن له ولد غيره وكان له عم قد أولد اثني عشر ولدًا فقالت الحبشة‏:‏ لو قتلنا أبا النجاشي وملكنا أخاه فإنه لا ولد له غير هذا الغلام وكان أخوه وأولاده يتوارثون الملك دهرًا‏.‏

فقتلوا أباه وملكوا عمه ومكثوا على ذلك حينًا وبقي النجاشي عند عمه وكان عاقلًا فغلب على أمر عمه فخافت الحبشة أن يقتلهم جزاء لقتل أبيه فقالوا لعمه‏:‏ إما أن تقتل النجاشي وإما أن تخرجه من بين أظهرنا فقد خفناه‏.‏

فأجابهم إلى إخراجه من بلادهم على كرهٍ منه فخرجوا إلى السوق فباعواه من تاجر بستمائة درهم‏.‏

فسار به التاجر في سفينته‏.‏

فلما جاء العشاء هاجت سحابة فأصابت عمه بصاعقة ففزعت الحبشة إلى أولاده فإذا هم لا خير فيهم فهرج على الحبشة أمرهم فقال بعضهم‏:‏ والله لا يقيم أمركم إلا النجاشي فإن كان لكم بالحبشة رأي فأدركوه‏.‏

فخرجوا في طلبه حتى أدركوه وملكوه‏.‏

وجاء التاجر وقال لهم‏:‏ إما أن تعطوني مالي وإما أن أكلمه‏.‏

فقالوا‏:‏ كلمه‏.‏

فقال‏:‏ أيها الملك ابتعت غلامًا بستمائة درهم ثم أخذوا الغلام والمال‏.‏

فقال النجاشي‏:‏ إما أن تعطوه دراهمه وإما أن يضع الغلام يده في يده فليذهبن به حيث شاء‏.‏

فأعطوه دراهمه فهذا معنى قوله‏.‏

فكان ذلك أول ما علم من عدله ودينه‏.‏

قال‏:‏ ولما مات النجاشي كانوا لا يزالون يرون على قبره نورًا‏.‏ثم إن أبا جهل مر برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو جالس عند الصفا فآذاه وشتمه ونال منه وعاب دينه ومولاة لعبد الله بن جدعان في مسكن لها تسمع ذلك ثم انصرف عنه فجلس في نادي قريش عند الكعبة فلم يلبث حمزة بن عبد المطلب أن أقبل من قنصه متوشحًا قوسه وكان إذا رجع لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالكعبة وكان يقف على أندية قريش ويسلم عليهم ويتحدث معهم وكان أعز قريش وأشدهم شكيمة‏.‏

فلما مر بالمولاة وقد قام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورجع إلى بيته قالت له‏:‏ يا أبا عمارة لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد من أبي الحكم بن هشام فإنه سبه وآذاه ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد‏.‏

قال‏:‏ فاحتمل حمزة الغضب لما أراد الله به من كرامته فخرج سريعًا لا يقف على أحد كما كان يصنع يريد الطواف بالكعبة معدًا لأبي جهل إذا لقيه أن يقع به حتى دخل المسجد فرآه جالسًا في القوم فأقبل نحوه وضرب رأسه بالقوس فشجه شجة منكرة وقال‏:‏ أتشتمه وأنا على دينه أقول ما يقول فاردد علي إن استطعت‏.‏

وقامت رجال بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل فقال أبو جهل دعوا أبا عمارة فإني سببت ابن أخيه سبًا قبيحًا‏.‏

وتم حمزة على إسلامه‏.‏

فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد عز وأن حمزة واجتمع يومًا أصحابه فقالوا‏:‏ ما سمعت قريش القرآن يجهر لها به فمن رجل يسمعهموه فقال ابن مسعود‏:‏ أنا‏.‏

فقالوا‏:‏ نخشى عليك إنما نريد من له عشيرة يمنعونه‏.‏

قال‏:‏ إن الله سيمنعني‏.‏

فغدا عليهم في الضحى حتى أتى المقام وقريش في أنديتها ثم رفع صوته وقرأ سورة الرحمن فلما علمت قريش أنه يقرأ القرآن قاموا إليه يضربونه وهو يقرأ ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثروا بوجهه فقالوا‏:‏ هذا الذي خشينا عليك‏.‏

فقال‏:‏ ما كان أعداء الله أهون علي منهم اليوم ولئن شئتم لأغادينهم‏.‏

قالوا‏:‏ حسبك قد أسمعتهم ما يكرهون‏.‏

 ذكر إسلام عمر بن الخطاب

ثم أسلم عمر بعد تسعة وثلاثين رجلًا وثلاث وعشرين امرأة وقيل‏:‏ أسلم بعد أربعين رجلًا وإحدى عشرة امرأة وقيل‏:‏ أسلم بعد خمسة وأربعين رجلًا وإحدى وعشرين امرأة وكان رجلًا جلدًا منيعًا وأسلم بعد هجرة المسلمين إلى الحبشة‏.‏

وكان أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يقدرون يصلون عند الكعبة حتى أسلم عمر فلما أسلم قاتل قريشًا حتى صلى عندها وصلى معه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وكان قد أسلم قبله حمزة بن عبد المطلب فقوي المسلمون بهما وعلموا أنهما سيمنعان رسول قالت أم عبد الله بنت أبي حثمة وكانت زوج عامر بن ربيعة إنا لنرحل إلى أرض الحبشة وقد ذهب عامر لبعض حاجته إذ أقبل عمر وهو على شركه حتى وقف علي وكنا نلقى منه البلاء أذىً وشدة فقال‏:‏ أتنطلقون يا أم عبد الله قالت‏:‏ قلت‏:‏ نعم والله لنخرجن في أرض الله فقد آذيتمونا وقهرتمونا حتى يجعل الله لنا فرجًا‏.‏

قالت‏:‏ فقال‏:‏ صحبكم الله ورأيت له رقة وحزنًا‏.‏

قالت‏:‏ فلما عاد عامر أخبرته وقلت له‏:‏ لو رأيت عمر ورقته وحزنه علينا‏!‏ قال‏:‏ أطمعت في إسلامه قلت‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب لما كان يرى من غلظته وشدته على المسلمين فهداه الله تعالى فأسلم فصار على الكفار أشد منه على المسلمين‏.‏

وكان سبب إسلامه أن أخته فاطمة بنت الخطاب كانت تحت سعيد بن زيد بن عمرو العدوي وكانا مسلمين يخفيان إسلامهما من عمر وكان نعيم بن عبد الله النحام قد أسلم أيضًا وهو يخفي إسلامه فرقًا من قومه وكان خباب بن الأرت يختلف إلى فاطمة يقرئها القرآن فخرج عمر يومًا ومعه سيفه يريد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والمسلمين وهم مجتمعون في دار الأرقم عند الصفا وعنده من لم يهاجر من المسلمين في نحو أربعين رجلًا فلقيه نعيم بن عبد الله فقال‏:‏ أين تريد يا عمر فقال‏:‏ أريد محمدًا الذي فرق أمر قريش وعاب دينها فأقتله‏.‏

فقال نعيم‏:‏ والله لقد غرتك نفسك أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدًا أفلا ترجع إلى أهلك فتقيم أمرهم قال‏:‏ وأي أهلي قال‏:‏ ختنك وابن عمك سعيد بن زيد وأختك فاطمة فقد والله أسلما‏.‏

فرجع عمر إليهما وعندهما خباب بن الأرت يقرئهما القرآن‏.‏

فلما سمعوا حس عمر تغيب خباب وأخذت فاطمة الصحيفة فألقتها تحت فخذيها وقد سمع عمر قراءة خباب‏.‏

فلما دخل قال‏:‏ ما هذه الهينمة قالا‏:‏ ما سمعت شيئًا قال‏:‏ بلى قد أخبرت أنكما تابعتما محمدًا وبطش بختنه سعيد بن زيد فقامت إليه أخته لتكفه فضربها فشجها فلما فعل ذلك قالت له أخته‏:‏ قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله فاصنع ما شئت‏.‏

ولما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم وقال لها‏:‏ أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرأون فيها الآن حتى أنظر إلى ما جاء به محمد‏.‏

قالت‏:‏ إنا نخشاك عليها فحلف أنه يعيدها‏.‏

قالت له وقد طمعت في إسلامه‏:‏ إنك نجسٌ على شركك ولا يمسها إلا المطهرون فقام فاغتسل‏.‏

فأعطته الصحيفة وقرأها وفيها‏:‏ طه وكان كاتبًا فلما قرأ بعضها قال‏:‏ ما أحسن هذا الكلام وأكرمه‏!‏ فلما سمع خباب خرج إليه وقال‏:‏ يا عمر إني والله لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه فإني سمعته أمس وهو يقول‏:‏ ‏(‏اللهمّ أيّد الإسلام بعمر بن الخطاب أو بأبي الحكم بن هشام‏)‏ الله يا عمر‏!‏ فقال عمر عند ذلك‏:‏ فدلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم‏.‏

فدله خباب فأخذ سيفه وجاء إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه فضرب عليهم الباب فقام رجل منهم فنظر من خلل الباب فرآه متوشحًا سيفه فأخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك فقال حمزة‏:‏ إئذن له فإن كان جاء يريد خيرًا بذلناه له وإن أراد شرًا قتلناه بسيفه‏.‏

فأذن له فنهض إليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى لقيه فأخذ بمجامع ردائه ثم جذبه جذبة شديدة وقال‏:‏ ما جاء بك ما أراك تنتهي حتى ينزل الله عليك قارعةً‏.‏

فقال عمر‏:‏ يا رسول الله جئت لأؤمن بالله وبرسوله فكبر ـ صلى الله عليه وسلم ـ تكبيرة عرف من في البيت أن عمر أسلم‏.‏

فلما أسلم قال‏:‏ أي قريش أنقل للحديث قيل‏:‏ جميل بن معمر الجمحي فجاءه فأخبره بإسلامه فمشى إلى المسجد وعمر وراءه وصرخ‏:‏ يا معشر قريش ألا إن ابن الخطاب قد صبأ‏.‏

فيقول عمر من خلفه‏:‏ كذب ولكني أسلمت فقاموا فلم يزل يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس وأعيا فقعد وهم على رأسه فقال‏:‏ افعلوا ما بدا لكم فلو كنا ثلاثمائة نفر تركناها لكم أو تركتموها لنا يعني مكة‏.‏

فبينما هم كذلك إذ أقبل شيخ عيه حلة فقال‏:‏ ما شأنكم قالوا‏:‏ صبأ عمر‏.‏

قال‏:‏ فمه رجل اختار لنفسه أمرًا فماذا تريدون أترون بني عدي يسلمون لكم صاحبهم هكذا خلوا قال عمر‏:‏ لما أسلمت أتيت باب أبي جهل بن هشام فضربت عليه بابه فخرج إلي وقال‏:‏ مرحبًا بابن أخي‏!‏ ما جاء بك قلت‏:‏ جئت لخبرك أني قد أسلمت وآمنت بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصدقت ما جاء به‏.‏

قال‏:‏ فضرب الباب في وجهي وقال‏:‏ قبحك الله وقبح ما جئت به وقيل في إسلامه غير هذا‏.‏

 

ذكر أمر الصحيفة

ولما رأت قريش الإسلام يفشو ويزيد وأن المسلمين قووا بإسلام حمزة وعمر وعاد إليهم عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي أمية من النجاشي بما يكرهون من منع المسلمين عنهم وأمنهم عنده ائتمروا في أن يكتبوا بينهم كتابًا يتعاقدون فيه على أن لا ينكحوا بني هاشم وبني المطلب ولا ينكحوا إليهم ولا يبيعوهم ولا يبتاعوا منهم شيئًا‏.‏

فكتبوا بذلك صحيفةً وتعاهدوا على ذلك ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدًا لذلك الأمر على أنفسهم فلما فعلت قريش ذلك انحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب فدخلوا معه في شعبه واجتمعوا‏.‏

وخرج من بني هاشم أبو لهب بن عبد المطلب إلى قريش فلقي هندًا بنت عتبة فقال‏:‏ كيف رأيت نصري اللات والعزى قالت‏:‏ لقد أحسنت‏.‏

فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثًا حتى جهدوا لا يصل إلى أحد منهم شيء إلا سرًا‏.‏

وذكروا أن أبا جهل لقي حكيم بن حزام بن خويلد ومعه قمحٌ يريد به عمته خديجة وهي عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الشعب فتعلق به وقال‏:‏ والله لا تبرح حتى أفضحك‏.‏

فجاء أبو البختري بن هشام فقال‏:‏ ما لك وله عنده طعام لعمته أفتمنعه أن يحمله إليها خل سبيله‏.‏

فأبى أبو جهل فنال منه‏.‏

فضربه أبو البختري بلحى جملٍ فشجه ووطئه وطًا شديدًا وحمزة ينظر إليهم وهم يكرهون أن يبلغ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك فيشمت بهم هو والمسلمون‏.‏

ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدعو الناس سرًا وجهرًا والوحي متتابع إليه فبقوا كذلك ثلاث سنين‏.‏

وقام في نقض الصحيفة نفر من قريش وكان أحسنهم بلاء فيه هشام بن عمرو بن لحارث بن عمرو بن لؤي وهو ابن أخي نضلة بن هشام بن عبد مناف لأمه وكان يأتي بالبعير قد أوقره طعامًا ليلًا ويستقبل به الشعب ويخلع خطامه فيدخل الشعب‏.‏

فلما رأى ما هم فيه وطول المدة عليهم مشى إلى زهير بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي أخي أم سلمة وكان شديد الغيرة على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والمسلمين وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب فقال‏:‏ يا زهير أرضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب وتنكح النساء وأخوالك حيث علمت أما إني أحلف بالله لو كانوا أخوال أبي الحكم يعني أبا جهل ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إيه ما أجابك أبدًا‏.‏

فقال‏:‏ فماذا أصنع وإنما أنا رجل واحد والله لو كان معي رجل آخر لنقضتها‏.‏

فقال‏:‏ قد وجدت رجلًا‏.‏

قال‏:‏ ومن هو قال‏:‏ أنا‏.‏

قال زهير‏:‏ ابغنا ثالثًا فذهب إلى المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف فقال له‏:‏ أرضيت أن يهلك بطنان من بني عدي ابن عبد مناف وأنت شاهد ذلك موافق فيه أما والله لئن أمكنتموهم من هذه لتجدنهم إليها منكم سراعًا‏.‏

قال‏:‏ ما أصنع إنما أنا رجل واحد‏.‏

قال‏:‏ قد وجدت ثانيًا‏.‏

قال‏:‏ من هو قال‏:‏ أنا‏.‏

قال‏:‏ ابغنا ثالثًا‏.‏

قال‏:‏ قد فعلت‏.‏

قال‏:‏ من هو قال‏:‏ زهير بن أبي أمية‏.‏

قال‏:‏ ابغنا رابعًا‏.‏

فذهب إلى أبي البختري بن هشام وقال له نحوًا مما قال للمطعم قال‏:‏ وهل من أحد يعين على هذا قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ من هو قال‏:‏ أنا وزهير والمطعم‏.‏

قال‏:‏ ابغنا خامسًا‏.‏

فذهب إلى زمعة بن الأسود المطلب بن أسد فكلمه وذكر له قرابتهم قال‏:‏ وهل على هذا الأمر معين قال‏:‏ نعم وسمى له القوم فاتعدوا خطم الحجون الذي بأعلى مكة فاجتمعوا هنالك وتعاهدوا على القيام في نقض الصحيفة‏.‏

فقال زهير‏:‏ أنا أبدأكم‏.‏

فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم وغدا زهير فطاف بالبيت ثم أقبل على الناس فقال‏:‏ يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى لا يبتاعون ولا يبتاع منهم والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة‏.‏

قال أبو جهل‏:‏ كذبت والله لا تشق‏.‏

قال زمعة بن الأسود‏:‏ أنت والله أكذب ما رضينا بها حين كتبت‏.‏

قال أبو البختري‏:‏ صدق زمعة لا نرضى ما كتب فيها‏.‏

قال المطعم بن عدي‏:‏ صدقتما وكذب من قال غي ذلك‏.‏

وقال هشام بن عمرو نحوًا من ذلك‏.‏

قال أبو جهل‏:‏ هذا أمر قضي بليلٍ وأبو طالب في ناحية المسجد‏.‏

فقام المطعم إلى الصحيفة ليشقها فوجد الأرضة قد أكلتها إلا ما كان‏:‏ باسمك اللهم كانت تفتتح بها كتبها وكان كاتب الصحيفة منصور بن عكرمة فشلت يده‏.‏

وقيل‏:‏ كان سبب خروجهم من الشعب أن الصحيفة لما كتبت وعلقت بالكعبة اعتزل الناس بني هاشم وبني المطلب وأقام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبو طالب ومن معهما بالشعب ثلاث سنين فأرسل الله الأرضة وأكلت ما فيها من ظلم وقطيعة رحم وتركت ما فيها من أسماء الله تعالى فجاء جبرائيل إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأعلمه بذلك فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعمه أبي طالب وكان أبو طالب لا يشك في قوله فخرج من الشعب إلى الحرم فاجتمع الملأ من قريش وقال‏:‏ إن ابن أخي أخبرني أن الله أرسل على صحيفتكم الأرضة فأكلت ما فيها من قطيعة رحمٍ وظلمٍ وتركت اسم الله تعالى فأحضروها فإن كان صادقًا علمتم أنكم ظالمون لنا قاطعون لأرحامنا وإن كان كاذبًا علمنا أنكم على حق وأنا على باطل‏.‏

فقاموا سراعًا وأحضروها فوجدوا الأمر كما قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقويت نفس أبي طالب واشتد صوته وقال‏:‏ قد تبين لكم أنكم أولى بالظلم والقطيعة‏.‏

فنكسوا رؤوسهم ثم قالوا‏:‏ إنما تأتوننا بالسحر والبهتان وقام أولئك النفر في نقضها كما ذكرنا وقال أبو طالب في أمر الصحيفة وأكل الأرضة ما فيها من ظلم وقطيعة رحم أبياتًا منها‏:‏ وقد كان في أمر الصحيفة عبرةٌ متى ما يخبّر غائب القوم يعجب محا الله منهم كفرهم وعقوقهم وما نقموا من ناطق الحقّ معرب فأصبح ما قالوا من الأمر باطلًا ومن يختلق ما ليس بالحقّ يكذب

 ذكر وفاة أبي طالب وخديجة

وعرض رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نفسه على العرب توفي أبو طالب وخديجة قبل الهجرة بثلاث سنين وبعد خروجهم من الشعب فتوفي أبو طالب في شوال أو في ذي القعدة وعمره بضع وثمانون سنة وكانت خديجة ماتت قبله بخمسة وثلاثين يومًا وقيل‏:‏ كان بينهما خمسة وخمسون يومًا وقيل‏:‏ ثلاثة أيام فعظمت المصيبة على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بهلاكهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما نالت قريش مني شيئًا أكرهه حتى مات أبو طالب‏)‏‏.‏ وذلك أن قريشًا وصلوا من أذاه بعد موت أبي طالب إلى ما لم يكونوا يصلون إليه في حياته حتى ينثر بعضهم التراب على رأسه وحتى إن بعضهم يطرح عليه رحم الشاة وهو يصي وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يخرج ذلك على العود ويقول‏:‏ أي جوار هذا يا بني عبد مناف‏!‏ ثم يلقيه بالطريق‏.‏

فلما اشتد عليه الأمر بعد موت أبي طالب خرج ومعه زيد بن حارثة إلى ثقيف يلتمس منهم النصر‏.‏

فلما انتهى إليهم عمد إلى ثلاثة نفر منهم وهم يومئذٍ ساده ثقيف وهم إخوةٌ ثلاثة‏:‏ عبد ياليل ومسعود وحبيب بنو عمر وبن عمير فدعاهم إلى الله وكلمهم في نصرته على الإسلام والقيام معه على من خالفه فقال أحدهم‏:‏ ماردٌ يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك‏.‏

وقال آخر‏:‏ أما وجد الله من يرسله غيرك‏!‏ وقال ثالث‏:‏ والله لا أكلمك كلمة أبدًا لئن كنت رسولًا من الله كما تقول لأنت أعظم خطرًا من أن أرد عليك ولئن كنت تكذب على الله فما ينبغي لي أن أكلمك‏.‏

فقام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد يئس من خير ثقيف وقال لهم‏:‏ إذا أبيتم فاكتموا علي ذلك وكره أن يبلغ قومه فلم يفعلوا وأغروا به سفهاءهم‏.‏

فاجتمعوا إليه وألجؤوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة وهو البستان وهما فيه ورجع السفهاء عنه وجلس إلى ظل حبلة وقال‏:‏ اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس اللهم يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أو إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي‏!‏ ولكن عافيتك هي أوسع إني أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو تحل بي سخطك‏.‏

فلما رأى ابنا ربيعة ما لحقه تحركت له رحمهما فدعوا غلامًا لهما نصرانيًا اسمه عداس فقالا له‏:‏ خذ قطفًا من هذا العنب واذهب به إلى ذلك الرجل ففعل‏.‏

فلما وضعه بين يدي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وضع يده فيه وقال‏:‏ بسم الله ثم أكل فقال عداس‏:‏ والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة‏.‏

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ من أي بلاد أ ت وما دينك قال‏:‏ أنا نصراني من أهل نينوى‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى قال له‏:‏ وما يدريك ما يونس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ذلك أخي كان نبيًا وأنا نبي فأكب عداس على يدي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيقول ابنا ربيعة أحدهما للآخر‏:‏ أما غلامك فقد أفسده عليك‏.‏

فلما جاء عداس قالا له‏:‏ ويحك ما لك تقبل يديه ورجليه قال‏:‏ ما في الأرض خيرٌ من هذا الرجل‏.‏

قالا‏:‏ ويحك إن دينك خير من دينه‏!‏ ثم انصرف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ راجعًا إلى مكة حتى إذا كان في جوف الليل قام قائمًا يصلي فمر به نفرٌ من الجن وهم سبعة نفر من جن نصيبين رائحين إلى اليمن فاستمعوا له فلما فرغ من صلواته ولوا إلى قومهم منذرين قد آمنوا وأجابوا‏.‏

وذكر بعضهم أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما عاد من ثقيف أرسل إلى المطعم بن عدي ليجيره حتى يبلغ رسالة ربه فأجاره وأصبح المطعم قد لبس سلاحه هو وبنوه وبنو أخيه فدخلوا المسجد فقال له أبو جهل‏:‏ أمجير أم متابع قال‏:‏ بل مجير‏.‏

قال‏:‏ قد أجرنا من أجرت‏.‏

فدخل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مكة وأقام بها فدخل يومًا المسجد الحرام والمشركون عند الكعبة‏.‏

فلما رآه أبو جهل قال‏:‏ هذا نبيكم يا بني عبد مناف‏.‏

فقال عتبة بن ربيعة‏:‏ وما ينكر أن يكون منا نبي وملك فأخبر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك فأتاهم فقال‏:‏ أما أنت يا عتبة فما حميت لله وإنما حميت لنفسك وأما أنت يا أبا جهل فوالله لا يأتي عليك غير بعيد حتى تضحك قليلًا وتبكي كثيرًا وأما أنتم يا معشر قريش فوالله لا يأتي وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعرض نفسه في المواسم على قبائل العرب فأتى كندة في منازلهم وفيهم سيد لهم يقال له مليح فدعاهم إلى الله وعرض نفسه عليهم فأبوا عليه‏.‏

فأتى كلبًا إلى بطن منهم يقال لهم‏:‏ بنو عبد الله فدعاهم إلى الله وعرض نفسه عليهم فلم يقبلوا ما عرض عليهم‏.‏

ثم إنه أتى بني حنيفة وعرض عليهم نفسه فقال له رجل منهم‏:‏ أرأيت إن نحن تابعناك فأظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك قال‏:‏ الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء‏.‏

قال له‏:‏ أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا ظهرت كان الأمر لغيرنا لا حاجة لنا بأمرك‏.‏

فلما رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم كبير فأخبروه خبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونسبه وضع يده على رأسه ثم قال‏:‏ يا بني عامر هل من تلاف والذي نفسي بيده ما تقولها إسماعيلي قط وإنها لحق وأين كان رأيكم عنه‏!‏ ولم يزل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعرض نفسه على كل قادم له اسم وشرف ويدعوه إلى الله‏.‏

وكان كلما أتى قبيلة يدعوهم إلى الإسلام تبعه عمه أبو لهب فإذا فرغ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من كلامه يقول لهم أبو لهب‏:‏ يا بني فلان إنما يدعوكم هذا إلى أن تستحلوا اللات والعزى من أعناقكم وحلفاءكم من الجن إلى ما جاء به من الضلالة والبدعة فلا ذكر أول عرض رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نفسه على الأنصار وإسلامهم فقدم سويد بن الصامت أخو بني عمرو بن عوف بطن من الأوس مكة حاجًا ومعتمرًا وكان يسمى الكامل لجلده وشعره ونسبه وهو القائل‏:‏ ألا ربّ من تدعو صديقًا ولو ترى مقالته بالغيب ساءك ما يفري مقالته كالسحر إذ كان شاهدًا وبالغيب مأثورٌ على ثغرة النّحر يسرّك باديه وتحت أديمه نميمة غشّ تبتري عقب الطّهر تبين لك العينان ما هو كاتمٌ وما جنّ بالبغضاء والنّظر الشّزر فرشني بخيرٍ طالما قد بريتني فخير الموالي من يريش ولا يبري فتصدى له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فدعاه إلى الإسلام وقرأ عليه القرآن فلم يبعد منه وقال‏:‏ إن هذا القول حسن ثم انصرف وقدم المدينة فلم يلبث أن قتله الخزرج قتل يوم بعاث فكان قومه يقولون‏:‏ قتل وهو مسلم‏.‏

بعاث بالباء الموحدة المضمومة والعين المهملة وهو الصحيح‏.‏وقدم أبو الحيسر أنس بن رافع مكة مع فتية من بني عبد الأشهل فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج فأتاهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال لهم‏:‏ هل لكم فيما هو خير لكم مما جئتم له ودعاهم إلى الاسم وقرأ عليهم القرآن فقال إياس وكان غلامًا حدثًا‏:‏ هذا والله خير مما جئنا له‏.‏

فضرب وجهه أبو الحيسر بحفنة من البطحاء وقال‏:‏ دعنا منك فلقد جئنا لغير هذا‏.‏

فسكت إياس وقام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يلبث إياس أن هلك فسمعه قومه يهلل الله ويكبره حتى مات فما يشكون أنه مات مسلمًا‏.‏

 

ذكر بيعة العقبة الأولى وإسلام سعد بن معاذ

فلما أراد الله إظهار دينه وإنجاز وعده خرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الموسم الذي لقي فيه النفر من الأنصار فعرض نفسه على القبائل كما كان يفعله فبينما هو عند العقبة لقي رهطًا من الخزرج فدعاهم إلى الله وعرض عليهم الإسلام وقد كانت يهود معهم ببلادهم وكان هؤلاء أهل أوثان فكانوا إذا كان بينهم شر تقول اليهود‏:‏ إن نبيًا يبعث الآن نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وثمود‏.‏

فقال أولئك النفر بعضهم لبعض‏:‏ هذا والله النبي الذي توعدكم به اليهود فأجابوه وصدقوه وقالوا له‏:‏ إن بين قومنا شرًا وعسى الله أن يجمعهم بك فإن اجتمعوا عليك فلا رجل أعز منك‏.‏

ثم انصرفوا عنه وكانوا سبعة نفر من الخزرج‏:‏ أسعد بن زرارة بن عدس أبو أمامة وعوف بن الحارث بن رفاعة وهو ابن عفراء كلاهما من بني النجار ورافع بن مالك بن عجلان وعامر بن عبد حارثة بن ثعلبة بن غنم كلاهما من بني زريق وقطبة بن عامر بن حديدة بن سواد من بني سلمة - سلمة هذا بكسر اللام - وعقبة بن عامر بن نابئ من بني غنم وجابر بن عبد الله بن رياب من بني عبيدة‏.‏

رياب بكسر الراء والياء المعجمة باثنتين من تحت وبالباء الموحدة‏.‏

فلما قدموا المدينة ذكروا لهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلًا فلقوه بالعقبة وهي العقبة الأولى فبايعوه بيعة النساء وهم‏:‏ أسعد بن زرارة وعوف ومعاذ ابنا الحارث وهما ابنا عفراء ورافع بن مالك بن عجلان وذكوان بن عبد قيس من بني زريق وعبادة بن الصامت من بني عوف بن الخزرج ويزيد بن ثعلبة بن خزمة أبو عبد الرحمن من بلي حليف لهم وعباس بن نضلة من بني سالم وعقبة بن عامر بن نابئ وقطبة بن عامر بن حديدة وهؤلاء من الخزرج وشهدها من الأوس أبو الهيثم بن التيهان حليف لبني عبد الأشهل وعويم بن ساعدة حليف فانصرفوا عنه وبعث ـ صلى الله عليه وسلم ـ معهم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام فنزل بالمدينة على أسعد بن زرارة فخرج به أسعد بن زرارة فجلس في دار بني ظفر واجتمع عليهما رجالٌ ممن أسلم‏.‏

فسمع به سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وهما سيدا بني عبد الأشهل وكلاهما مشرك فقال سعد لأسيد‏:‏ انطلق إلى هذين اللذين أتيا دارنا فانههما فإنه لولا أسعد بن زرارة وهو ابن خالتي كفيتك ذلك‏.‏

فأخذ أسيد حربته ثم أقبل عليهما فقال‏:‏ ما جاء بكما تسفهان ضعفاءنا اعتزلا عنا‏.‏

فقال مصعب‏:‏ أو تجلس فتسمع فإن رضيت أمرًا قبلته وإن كرهته كف عنك ما تكره‏!‏ فقال‏:‏ أنصفت ثم جلس إليهما فكلمة مصعب بالإسلام فقال‏:‏ ما أحسن هذا وأجله‏!‏ كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الدين قالا‏:‏ تغتسل وتطهر ثيابك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي ركعتين ففعل ذلك وأسلم‏.‏

ثم قال لهما‏:‏ إن ورائي رجلًا إن تبعكما لم يتخلف عنكما أحد من قومه وسأرسله إليكما سعد بن معاذ‏.‏

ثم انصرف إلى سعد وقومه فلما نظر إليه سعد قال‏:‏ أحلف بالله لقد جاءكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم‏!‏ فقال له سعد‏:‏ ما فعلت قال‏:‏ كلمت الرجلين والله ما رأيت بهما بأسًا وقد حدثت أن بني حارثة قد خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه‏.‏

فقام سعد مغضبًا مبادرًا لخوفه مما ذكر له ثم خرج إليهما فلما رآهما مطمئنين عرف ما أرد أسيد فوقف عليهما وقال لأسعد بن زرارة‏:‏ لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني‏.‏

فقال له مصعب‏:‏ أو تقعد فتسمع فإن رضيت أمرًا قبلته وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره‏!‏ فجلس فعرض عليه مصعب الإسلام وقرأ عليه القرآن فقال لهما‏:‏ كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الدين فقالا له ما قالا لأسيد فأسلم وتطهر ثم عاد إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير فلما وقف عليهم قال‏:‏ يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم قالوا‏:‏ سيدنا وأفضلنا‏.‏

قال‏:‏ فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرامٌ حتى تؤمنوا بالله ورسوله‏.‏

قال‏:‏ فوالله ما أمسى في دار عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلمًا أو مسلمة‏.‏

ورجع مصعب إلى منزل أسعد ولم يزل يدعو إلى الإسلام حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون إلا ما كان من بني أمية ابن زيد ووائل وواقف فإنهم أطاعوا أبا قيس بن الأسلت فوقف بهم عن الإسلام حتى هاجر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومضت بدر وأحد والخندق وعاد مصعب إلى مكة‏.‏

أسيد بضم الهمزة وفتح السين‏.‏

وحضير بضم الحاء المهملة وفتح الضاد المعجمة وتسكين الياء تحتها نقطتان وفي آخره راء‏.‏لما فشا الإسلام في الأنصار اتفق جماعةٌ منهم على المسير إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مستخفين لا يشعر بهم أحد فساروا إلى مكة في الموسم في ذي الحجة مع كفار قومهم واجتمعوا به وواعدوه أوسط أيام التشريف بالعقبة‏.‏

فلما كان الليل خرجوا بعد مضي ثلثه مستخفين يتسللون حتى اجتمعوا بالعقبة وهم سبعون رجلًا معهم امرأتان‏:‏ نسيبة بنت كعب أم عمارة وأسماء أم عمرو بن عدي من بني سلمة وجاءهم رسول الله ومعه عمه العباس ابن عبد المطلب وهو كافر أحب أن يتوثق لابن أخيه فكان العباس أول من تكلم فقال‏:‏ يا معشر الخزرج وكانت العرب تسمى الخزرج والأوس به إن محمدًا منا حيث قد علمتم في عز ومنعة وإنه قد أبى إلا الانقطاع إليكم فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه فأنتم وذلك وإن كنتم ترون أنكم مسلموه فمن الآن فدعوه فإنه في عز ومنعة‏.‏

فقال الأنصار‏:‏ قد سمعنا ما قلت فتكلم يا رسول الله وخذ لنفسك وربك ما أحببت‏.‏

فتكلم وتلا القرآن ورغب في الإسلام ثم قال‏:‏ تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم‏.‏

ثم أخذ البراء بن معرور بيده ثم قال‏:‏ والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أهل الحرب‏.‏فاعترض الكلام أبو الهيثم بن التيهان فقال‏:‏ يا رسول الله إن بيننا وبين الناس حبالًا وإنا قاطعوها يعني اليهود فهل عسيت إن أ هرك الله عز وجل أن ترجع إلى قومك وتدعنا فتبسم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال‏:‏ بل الدم الدم والهدم الهدم أنتم مني وأنا منكم أسالم من سالمتم وأحارب من حاربتم‏.‏

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أخرجوا إلى اثني عشر نقيبًا يكونون على قومهم فأخرجوهم تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس‏.‏

وقال لهم العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري‏:‏ يا معشر الخزرج هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل تبايعونه على حرب الأحمر والأسود فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبةً وأشرافكم قتلًا أسلمتموه فمن الآن فهو والله خزي الدنيا والآخرة وإن كنتم ترون أنكم وافون له فخذوه فهو والله خير الدنيا والآخرة‏.‏

قالوا‏:‏ فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف فما لنا بذلك يا رسول الله قال‏:‏ الجنة‏.‏

قالوا‏:‏ ابسط يدك فبايعوه‏.‏

وما قال العباس بن عبادة ذلك إلا ليشد العقد له عليهم‏.‏

وقيل‏:‏ بل قاله ليؤخر الأمر ليحضر عبد الله بن أبي بن سلول فيكون أقوى لأمر القوم‏.‏

فكان أول من بايعه أبو أمامة أسعد بن زرارة وقيل‏:‏ أبو الهيم بن التيهان وقي‏:‏ البراء بن معرور‏.‏

ثم بايع القوم فبايعوا فلما بايعوه صرخ الشيطان من رأس العقبة‏:‏ يا أهل الجباجب هل لكم في مذممٍ والصباة معه قد اجتمعوا على حربكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أما والله لأفرغن لك أي عدو الله‏!‏ ثم قال‏:‏ ارفضوا إلى رحالكم‏.‏

فقال له العباس بن عبادة‏:‏ والذي بعثك بالحق نبيًا لئن شئت لنميلن غدًا على أهل منىً بأسيافنا‏.‏

فقال‏:‏ لم نؤمر بذلك فرجعوا‏.‏

فلما أصبحوا جاءهم جلة قريش فقالوا‏:‏ قد بلغنا أنكم جئتم إلى صاحبنا تستخرجونه وتبايعونه على حربنا وإنه والله ما من حي من أحياء العرب أبغض إلينا أن تنشب بيننا وبينهم الحرب منكم‏.‏

فحلف من هناك من مشركي الأنصار ما كان من هذا شيء‏.‏

فلما سار الأنصار من مكة قال البراء بن معرور‏:‏ يا معشر الخزرج‏!‏ قد رأيت أن لا أستدبر الكعبة في صلاتي‏.‏

فقالوا له‏:‏ إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستقبل الشام فنحن لا نخالفه فكان يصلي إلى الكعبة فلما قدم مكة سأل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ذلك فقال‏:‏ لقد كنت على قبلة لو صبرت عليها‏.‏

فرجع إلى قبلة رسول الله‏.‏

فلما بايعوه ورجعوا إلى المدينة كان قدومهم في ذي الحجة فأقام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمكة بقية ذي الحجة والمحرم وصفر وهاجر إلى المدينة في شهر ربيع الأول وقدمها لاثنتي عشرة ليلة خلت وقد كانت قريش لما بلغهم إسلام من أسلم من الأنصار اشتدوا على من بمكة من المسلمين وحرصوا على أن يفتنوهم فأصابهم جهدٌ شديد وهي الفتنة الآخرة وأما الأولى فكانت قبل هجرة الحبشة‏.‏

وكانت البيعة في هذه العقبة على غير الشروط في العقبة الأولى فإن الأولى كانت على بيعة النساء وهذه البيعة كانت على حرب الأحمر والأسود‏.‏

ثم أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصحابه بالهجرة إلى المدينة فكان أول من قدمها أبو سلمة بن عبد الأسد وكانت هجرته قبل البيعة بسنة ثم هاجر بعده عامر بن ربيعة حليف بني عدي مع امرأته ليلى ابنة أبي حثمة ثم عبد الله بن جحش ومعه أخوه أبو أحمد وجميع أهله فأغلقت دارهم وتتابع الصحابة ثم هاجر عمر بن الخطاب وعياش بن أبي ربيعة فنزلا في بني عمرو بن عوف وخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام إلى عياش بن أبي ربيعة بالمدينة وكان أخاهما لأمهما فقالا له‏:‏ إن أمك قد نذرت أنها لا تستظل ولا تمتشط‏.‏

فرق لها وعاد وتتابع الصحابة بالهجرة إلى أن هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏